الحصانة البرلمانية بقلم: القاضي الدكتور جابر غنيمي مدرس جامعي
المساعد الأول لوكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بسوسة
الحصانة البرلمانية تهدف إلى ضمان سير عمل النواب أكمل وجه كممثلين للشعب و مصدر للتشريع بمنأى عن تدخل مُحتمل لباقي السلط في مهامهم ، وعدم التأثير على إستمرارية العمل النيابي .
والحصانة البرلمانية تمثل استثناء من القانون العام اقتضته ضرورة جعل السلطة التشريعية بمنأى عن اعتداءات السلطات الأخرى، وهي إن كانت في الظاهر تخل بمبدأ المساواة بين الأفراد إلا أن عدم المساواة هنا لم يقرر لمصلحة النائب بل لمصلحة سلطة الأمة ولحفظ كيان التمثيل النيابي وصيانة ضد أي اعتداء .
والحصانة في اللغة العربية جاءت من فعل حصن، أي كرم ومنع، فهو حصين وأحصنه وحصنه، فهي في اللغة العربية تعني المنعة والتحصين.
وأصل الإحصان المنع كما جاء في لسان العرب، والمصدر (حَصانة) مشتق من الجذر الثلاثي (ح ص ن)، ويمكن أن نستخلص ممّا ورد في بعض المعاجم وقواميس اللغة المعتبرة أن كلمة (حَصانة) تفيد معاني المِنعة، والحماية، والأمان للبناء، والإحكام في نسج الدرع، والعفة بالتزويج للمرأة، وإحراز الفارس للحصان الفحل.
إذن الحصانة لغة تشمل على عدة معان، فهي تعني المنعة، والتحصين، والإعفاء، والحماية، والتكريم، والاستثناء.
والحصانة البرلمانية هي نوع من الحماية القانونية التي يعطيها الدستور لنواب الشعب في البرلمان كنوع من الحماية السياسية والقانونية حتى يستطيع النائب أن يؤدي وظيفته الدستورية كاملة (كسلطة تشريعية) بعيدا عن تأثير السلطة التنفيذية على أعضاء البرلمان بالترغيب أو الترهيب.
وظهرت الحصانة البرلمانية في إنجلترا عام 1688م على أثر قيام الثورة الإنجليزية وإقرار الوثيقة الدستورية المعروفة باسم قانون الحقوق، حيث نصت هذه الوثيقة على أن حرية القول - المناقشات - الإجراءات داخل البرلمان لا يمكن أن تكون سببا للملاحقة القضائية أو محلا للمساءلة أمام أي من المحاكم وإقرار هذه الحصانة في إنجلترا كان أساسا لحماية النواب من سلطات الملوك وليس حمايتهم من مواطنيهم والحصانة البرلمانية في إنجلترا كانت قاصرة على الدعاوى المدنية إضافة إلى الإجراءات الخاصة بالدعاوى الجنائية البسيطة فقد استثنت من نطاق هذه الحصانة قضايا الخيانة العظمى وقضايا الجنايات وقضايا الإخلال بالأمن. ولهذا فقد كان من الممكن دائما القبض على عضو البرلمان في أي من هذه الجرائم دون رفع الحصانة عنه، كما استثنت من الحصانة البرلمانية الجرائم التي ترتكب من أعضاء البرلمان في مواجهة إحدى المحاكم وقد أطلق على هذه الجرائم ' جرائم إهانة المحكمة ' إلا أنه حدث تطور هام خلال القرن الثامن عشر في مجال الحصانة البرلمانية، فقد صدر قانون ينظم أحكامها ويضع بعض القيود والضوابط لكيفية مباشرتها.
أما في فرنسا نجد أن الحصانة قد وجدت في معظم المواثيق الدستورية الفرنسية بذات المضمون الذي كانت عليه في المواثيق الإنجليزية، فقد نص عليها بداية في قرار الجمعية التأسيسية الفرنسية الصادرة في 23 جويلية 1789م ثم نص عليها في دستور عام 1791م. ثم في دستور 1795 وكذلك الدساتير المتتالية في عام 1799 ودستور عام 1848 ودستور 1875 ودستور 1946م وأخيراً الدستور الحالي الصادر عام 1958م فقد تضمنت كل هذه الدساتير مبدأ الحصانة ضد المسئولية البرلمانية أما عن الحصانة البرلمانية ضد الإجراءات الجنائية فقد وجدت في فرنسا منذ وقت بعيد نسبيا حيث نص عليها بداءة في قرار الجمعية التأسيسية الصادر في 26 جويلية سنة 1790 م. هذا ولا زالت تلك القواعد والأحكام سارية المفعول حتى الآن.
و في مصر لم تتضمن أول وثيقة دستورية عرفتها مصر وهي لائحة تأسيس مجلس شورى النواب وانتخاب أعضائه الصادرة في 22 أكتوبر 1868 نصا يشير إلى الحصانة ضد المسئولية البرلمانية.
وقد يكون ذلك راجعا إلى حداثة العهد بالنظم الديمقراطية فقد كان هذا المجلس أول تجربة للحياة النيابية في مصر، فكان أمرا طبيعيا ألا يتقرر للأعضاء كافة الضمانات التي تحقق لهم حرية التعبير أو القول عند مباشرة وظائفهم النيابية، ولكن وبمجرد أن استقرت الحياة النيابية وعلى أثر إعادة تشكيل مجلس النواب عام 1882 نجد أن اللائحة الأساسية لهذا المجلس والتي صدرت في 7 فبفري 1882 قد تضمنت نصا يقرر الحصانة لأعضائه ضد المسئولية البرلمانية وهو نص المادة الثالثة الذي جاء به (النواب مطلقو الحرية في إجراء وظائفهم وليسوا مرتبطين بأوامر أو تعليمات تصدر لهم تخل باستقلال آرائهم ولا بوعد أو وعيد يحصل إليهم).
كما تضمن دستور 1930م نصا مماثلا للنص السابق، إلا أن هذا الدستور الغي بأمر الملكي رقم 118 الصادر في 12 ديسمبر عام 1935م وعاد العمل بدستور عام 1923 م بما كان يتضمنه من نصوص خاصة بالحصانة البرلمانية، ثم نص بعد ذلك على الحصانة ضد المسئولية البرلمانية في أول دستور دائم لمصر بعد قيام الثورة وهو دستور 1956م، أما الدستور المؤقت الصادر 1958م فقد أتى خاليا من النص على الحصانة البرلمانية وقد يرجع ذلك إلى ظروف الوحدة مع القطر السوري آنذاك.
وبعد أن تم الانفصال عن القطر السوري عاد المشرع الدستوري المصري ونص على الحصانة ضد المسئولية البرلمانية في دستور 1964م. وأخيرا صدر دستور 1971م متضمنا على الحصانة ضد المسئولية فقد جاء نص المادة (98) كما يلي " لا يؤاخذ أعضاء مجلس الشعب عما يبدونه من الأفكار والآراء في أداء أعمالهم في المجلس أو في لجانه ". وتم إلغاء دستور 1971عقب ثورة 25 جانفي 2011 وتم العمل بالإعلان الدستوري الذي تم الاستفتاء عليه في مارس 2012 ولقد استمرت هذه المادة في دستور 2012 الذي تم إلغاؤه في واستمرت هذه المادة في دستور 2014 .
و في لبنان تنص المادة (40) من دستور الجمهورية اللبنانية بأن " لا يجوز في أثناء انعقاد دورة الانعقاد اتخاذ إجراءات جزائية نحو أي عضو من أعضاء المجلس أو إلقاء عليه إذا اقترف جرماً إلا بإذن المجلس ما خلا حالة التلبس بالجريمة ".
وتنص المادة (39) من دستور لبنان على عدم مسؤولية أعضاء مجلس النواب بأن " لا تجوز إقامة دعوى جزائية على أي عضو من أعضاء المجلس بسبب الآراء والأفكار التي يبديها مدة نيابية".
و في الأردن تنص المادة (86) من دستور المملكة الأردنية الهاشمية على ما يأتي :
1"- لا يوقف أحد أعضاء مجلس الأعيان والنواب ولا يحاكم فلان مدة اجتماع المجلس ما لم يصدر من المجلس الذي هو منتسب إليه قرار بالأكثرية المطلقة بوجود سبب كاف لتوقيفه أو المحاكمة أو ما لم يقبض عليه في حالة التلبس بجريمة جنائية وفي حالة القبض عليه بهذه الصورة يجب إعلام المجلس بذلك فوراً .
2- إذا أوقف عضو لسبب ما خلال المدة التي لا يكون مجلس الأمة مجتمعاً فيها فعلى رئيس الوزراء أن يبلغ المجلس المنتدب إليه ذلك العضو عند اجتماعه الإجراءات المتخذة مشفوعة بالإيضاح للازم" .
و في الجمهورية العربية اليمنية تنص المادة (95) من دستور الجمهورية العربية اليمنية على أن " يتمتع أعضاء مجلس الشورى بالحصانة ولا يجوز أن تتخذ ضد العضو إجراءات التحقيق أو التفتيش أو القبض أو الحبس أو أي إجراء جزائي آخر إلا بإذن المجلس فيما عدا حالة التلبس بالجريمة وفي هذه الحالة يجب إخطار المجلس فوراً للعلم" .
وتنص المادة (85) من الدستور اليمنى على أن " لا يؤخذ عضو مجلس الشورى بحال من الأحوال بسبب الوقائع التي يطلع عليها ويوردها ، أو الأفكار والآراء التي يبديها في عمله في المجلس أو لجانه أو يسبب التصويت في الجلسات العلنية ولا ينطبق هذا الحكم على ما يصدر من العضو من قذف أو سب ".
و في المملكة المغربية نص الدستور على الحصانة البرلمانية في الفصل (37) في فقراته الثانية والثالثة والرابعة التي تنص على " لا يمكن في أثناء دورات المجلس متابعة أي عضو من أعضائه وإلقاء القبض عليه من أجل جناية أو جنحة غير ما سبقت الإشارة إليه في الفقرة الأولى من هذا الفصل إلا بإذن من المجلس ما لم يكن هذا العضو في حالة التلبس بالجريمة .
" ولا يمكن خارج مدة دورات المجلس إلقاء القبض على عضو من أعضائه إلا بإذن من مكتب المجلس ماعدا في حالة التلبس بالجريمة أو متابعة مأذون فيها أو صدور حكم نهائي بالعقاب ".
"يوقف اعتقال عضو من أعضاء مجلس النواب أو متابعته إذا صدر طلب بذلك من المجلس ماعدا في حالة التلبس بالجريمة أو متابعة مأذون فيها أو صدور حكم نهائي بالعقاب ' .
كذلك " لا يمكن متابعة أي عضو من أعضاء مجلس النواب ولا البحث عنه إلقاء القبض عليه ولا اعتقاله ولا محاكمته بمناسبة إبدائه الرأي أو قيامه بتصويت خلال مزاولة لمهامه ماعدا إذا كان الرأي المعبر عنه يجادل في النظام الملكي أو الدين الإسلامي أو ينص ما يخل باحترام الواجب للملك" .
و تنص المادة (111) من دستور الكويت على أن " لا يجوز أثناء دورة الانعقاد في غير حالة الجرم المشهود أن تتخذ نحو العضو إجراءات التحقيق أو التفتيش أو القبض أو الحبس أو أي إجراء جزائي آخر إلا بإذن المجلس ويتعين إخطار المجلس بما قد يتخذ من إجراءات جنائية أثناء انعقاده على النحو السابق كما يجب إخطاره دوماً في أول اجتماع له بأي إجراء يتخذ في غيبته ضد أي عضو من أعضائه وفي جميع الأحوال إذا لم يصدر المجلس قراره في طلب الإذن خلال شهر من تاريخ وصوله إليه اعتبر ذلك بمثابة إذن".
أما بالنسبة لتونس فقد تضمّن دستور 1959 فصلين حول الحصانة البرلمانية (26 و27). أقرّ الفصلان أنّه لا يمكن تتبّع عضو مجلس النواب أو مجلس المستشارين ( أضيف بعد تنقيح سنة 2002) أو إيقافه أو محاكمته لأجل آراء أو اقتراحات يبديها أو أعمال يقوم بها لأداء مهامه النيابية داخل كلّ مجلس. كما لا يمكن تتبّع أو إيقاف أحد أعضاء مجلس النواب أو مجلس المستشارين طيلة نيابته في تهمة جنائية أو جناحية ما لم يرفع عنه المجلس المعني الحصانة. أما في حالة التلبس بالجريمة فإنه يمكن إيقافه ويعلم المجلس المعني حالاّ على أن ينتهي كل إيقاف إن طلب المجلس. وخلال عطلة المجلس يقوم مكتبه مقامه.
أما بالنسبة لدستور الجمهورية الثانية (دستور 2014)، فقد نص الفصل 68 من الدستور التونسي على انه " لا يمكن إجراء أي تتبع قضائي مدني أو جزائي ضدّ عضو بمجلس نواب الشعب، أو إيقافه، أو محاكمته لأجل آراء أو اقتراحات يبديها، أو أعمال يقوم بها، في ارتباط بمهامه النيابية".
و أضاف الفصل 69 انه " إذا اعتصم النائب بالحصانة الجزائية كتابة، فإنه لا يمكن تتبعه أو إيقافه طيلة مدة نيابته في تهمة جزائية ما لم ترفع عنه الحصانة أما في حالة التلبس بالجريمة فإنه يمكن إيقافه، ويُعلَم رئيس المجلس حالا على أن ينتهي الإيقاف إذا طلب مكتب المجلس ذلك".
ويمكّن القانون النيابة العمومية من توجيه التهم ودعوة النواب إلى التحقيق مباشرة دون العودة إلى البرلمان وطلب رفع الحصانة عنهم، ولا تطلب النيابة العمومية من البرلمان رفع الحصانة إلا في حالة تمسك النائب بحصانته كتابياً.
و الحصانة البرلمانية تقتضي تحديد طبيعتها القانونية ( المبحث الأول) و رفعها ( المبحث الثاني)
المبحث الأول: الطبيعة القانونية للحصانة البرلمانية
تشمل الحصانة البرلمانية الحصانة الوظيفية أو الحصانة ضد المسؤولية ( الفقرة الأولى) و الحصانة الإجرائية أو الحصانة ضد الإجراءات الجزائية ( الفقرة الثانية) الفقرة الأولى: الحصانة الوظيفية : ويقصد بها كل ما يصدر عن عضو مجلس بصفته هذه من أفكار وآراء وأقوال أثناء أداء وظيفته النيابية، حيث لا يمكن مساءلته مدنيا أو جنائياً رغم أن ذات التصرف لو صدر عن فرد عادي لأدى إلى مساءلته.
وقد نص على ذلك الفصل 68 من الدستور التونسي على انه " لا يمكن إجراء أي تتبع قضائي مدني أو جزائي ضدّ عضو بمجلس نواب الشعب، أو إيقافه، أو محاكمته لأجل آراء أو اقتراحات يبديها، أو أعمال يقوم بها، في ارتباط بمهامه النيابية". و تشمل الحصانة كل قول أو فعل يصدر عن عضو المجلس أثناء أداء وظيفته النيابية سواء كان في قاعة المجلس أو في اللجان التابعة له ، وسواء كان داخل المقر المجلس أو خارجه . ولكن الحصانة لا تشمل ما يصدر عن العضو دون أن يكون لازما حتما لأداء وظيفته . فعضو المجلس له صفتان صفته كممثل الشعب وبهذه الصفة يحصنه الدستور ضد المسئولية عما يصدر من قول أو فعل فله أن يتهم في إحدى الجلسات فلانا بالتزوير أو الرشوة أو الخيانة ، وله أن يدعي أن موظفاً قد ارتكب جريمة معينة أثناء أداء وظيفته ، أما في الفترات التي لا يؤدي فيها العضو وظيفته النيابية أو فترات حل المجلس أو عندما ينفض دور الانعقاد أو بعد انتهاء الفصل التشريعي فإنه يتصرف كأي فرد عادي وتطبق عليه كافة القواعد القانونية التي تحكم سلوك الأفراد . وتعني هذه الحصانة عدم مسئولية العضو عن أقواله أو أفعاله أثناء مباشرة مهامه النيابية فتمنع إقامة الدعوى المدنية والدعوى الجنائية على السواء، فلا النيابة تستطيع أن تحرك الدعوى العمومية ولا المتضرر يستطيع أن يطالب بالتعويض عما أصابه.
و يشار إلى أن الفصل 28 من النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب نص على إمكانية عدم إعتصام النائب بالحصانة أي قبول التتبعات في شأنه والإمتثال لها رغم إرتباطها الوثيق بآراء وأعمال تندرج في إطار ممارسة الوظيفة التشريعية.
وبحكم إرتباطها الوثيق بممارسة المهام فإن الحصانة الوظيفية التي يتمتع بها النائب لا تكتسي الصبغة المطلقة بل لها طابع مشروط بممارسة الوظيفة النيابية حتى يتسنى للنائب القيام بمهامه الدستورية بكل حرية دون الخضوع إلى تهديدات وضغوطات مهما كان مصدرها أو نوعها.
الفقرة الثانية: الحصانة الإجرائية :
الحصانة الإجرائية أو الحصانة ضد الإجراءات الجزائية تعني عدم جواز اتخاذ أي إجراءات جنائية ضد أي من أعضاء البرلمان في غير حالة التلبس بالجريمة إلا بعد رفع الحصانة عنه، ولهذا يطلق عليها الحصانة ضد الإجراءات الجنائية .
فالحصانة الإجرائية في علاقة بالأفعال التي يقوم بها النائب خارج ممارسة وظيفته التشريعية ولقد تعرض لها الفصل 69 من الدستور التونسي حينما أقر أنه لا يمكن تتبع النائب طيلة مدة نيابته في تهمة جزائية ما لم ترفع عنه الحصانة.
والحصانة ضد الإجراءات تستهدف حماية العضو من أن تتخذ بحقه إجراءات جزائية قد تحول بينه وبين المشاركة الفعلية في أعمال المجلس أو أعمال لجانه . كما تستهدف حمايته عندما تتخذ هذه الإجراءات كوسيلة للضغط عليه حتى يتصرف على وجه معين أو حتى لا يتصرف على الإطلاق .
وتظهر الحصانة ضد الإجراءات عندما يرتكب العضو جريمة خارج وظيفته النيابية أي بصفته فرداً عادياً كأن يرتكب اعتداء على الأشخاص أو على الأموال .وهي حصانة ضد الإجراءات الجزائية فحسب فلا تمتد الحصانة إلى الإجراءات المدنية . فليس هناك ما يمنع من أن ترفع على العضو دعوى بالتعويض عن ضرر تسبب فيه . كذلك ليس هناك ما يمنع أن ترفع عليه أي دعوى مدنية أو تجارية ، إذ أن الحصانة ضد الإجراءات الجزائية فقط سواء بدأتها النيابة العامة بدعوى عمومية أو أحد الأفراد بدعوى مباشرة.
المبحث الثاني: رفع الحصانة البرلمانية
ينص الفصل 69 من الدستور على انه " إذا اعتصم النائب بالحصانة الجزائية كتابة، فإنه لا يمكن تتبعه أو إيقافه طيلة مدة نيابته في تهمة جزائية ما لم ترفع عنه الحصانة. أما في حالة التلبس بالجريمة فإنه يمكن إيقافه، ويُعلم رئيس المجلس حالا على أن ينتهي الإيقاف إذا طلب مكتب المجلس ذلك".
يفرق الفصل 69 من الدستور التونسي بين حالة الجريمة غير المتلبس بها ( الفقرة الأولى) و الجريمة المتلبس بها ( الفقرة الثانية)
الفقرة الأولى: الجريمة غير المتلبس بها
ان التتبعات الجزائية ضد النائب في خصوص الأفعال التي لا علاقة لها بممارسة المهام النيابية تخضع إلى شرطين أساسين:
- إما أن يتخلى النائب عن حصانته. وإذا تخلى النائب عن حصانته فإن إجراءات التتبع تتم بصفة عادية، و بالتالي يمكن للنيابة العمومية توجيه التهم و دعوة النواب للتحقيق دون الرجوع إلى البرلمان وطلب رفع الحصانة عنهم و لا تطلب النيابة العمومية رفع الحصانة إلا بعد تمسك النائب بحصانته كتابيا.
- أو أن يقرر مجلس نواب الشعب رفع الحصانة عن النائب بعد دراسة ملفه والإتهامات الموجهة ضده طبقا للإجراءات المنصوص عليها بالنظام الداخلي وتركه بالتالي يمثل أمام القضاء.
وبالتالي وبناءا على ما سبق فإنه لا يمكن تتبع النائب دون موافقته أو دون موافقة المجلس.
ولقد خص للنظام الداخلي لمجلس نواب الشعب الحصانة بباب كامل وهو الباب الرابع الذي يحتوي ستة فصول (الفصول من 28 إلى 33).
ويتم النظر في رفع الحصانة على أساس الطلب المقدم من السلطة القضائية مرفقا بملف القضيّة إلى رئيس مجلس نواب الشعب.
ويتولّى رئيس المجلس إعلام المعني وإحالة طلب رفع الحصانة ومرفقاته إلى لجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين البرلمانية والقوانين الانتخابية التي تتولّى دراسته والاستماع إلى العضو المعني الذي يمكنه إنابة أحد زملائه من الأعضاء لإبلاغ رأيه أمام اللجنة.
وتتولّى اللجنة النظر فيما يعرض عليها من ملفات وإعداد تقارير في شأنها في أجل أقصاه خمسة عشر يوما من تاريخ الإحالة. وترفع اللجنة تقريرها إلى مكتب المجلس الذي يحيله إلى الجلسة العامة.
ولا يجوز لأي عضو لا ينتمي إلى هذه اللجنة حضور أشغالها إلا للإدلاء بأقواله أو الإجابة على أسئلة اللجنة وفي حدود المدة الضرورية للاستماع إليه.
وعندما يكون المعني بطلب رفع الحصانة عضوا بهذه اللجنة، تنظر اللجنة في ملفه دون حضوره إلى حين رفعها التقرير بشأنه.
ويتم طلب إنهاء إيقاف عضو باقتراح من عضو أو أكثر وبقرار يتخذه المجلس على ضوء تقرير لجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين البرلمانية والقوانين الانتخابية الذي يتم تقديمه في أجل أقصاه ثماني وأربعون ساعة وبعد الاستماع إلى صاحب الاقتراح أو إلى أول من أمضى في تقديمه.
وينظر المجلس في هذه الطلبات على ضوء التقرير الذي تعده اللجنة والذي يوزع على كافة الأعضاء قبل انعقاد الجلسة العامة.
ويتمّ الاستماع إلى تقرير اللجنة ثم إلى العضو المعني إذا رغب في ذلك أو لمن ينيبه من زملائه الأعضاء. ثم يتخذ المجلس قراره في خصوص طلب رفع الحصانة بأغلبية الحاضرين من أعضائه. ويتولى رئيس المجلس إعلام من يهمهم الأمر بقرار المجلس. وتكون الجلسات المتعلقة بالحصانة سرية.
وإذا اتّخذ المجلس قراره برفض طلب رفع الحصانة، فإنه لا يمكن تقديم طلب أو اقتراح ثان يتعلق بنفس الأفعال التي كانت موضوع الطلب الأول أو الاقتراح المرفوض.
ووجب الإشارة هنا أن المشرع غفل عن تحديد الإجراءات الواجب إتباعها في حالة عدم تخلي النائب عن الحصانة وعدم تمسكه بها كتابيا، إذ أن إحالة طلب رفع الحصانة إلى مجلس نواب الشعب يجب أن يتضمن إقرار كتابيا من النائب بتمسكه بالحصانة، لذا وجب تعديل النظام الداخلي وتحديد سقف زمني لرد النائب والإقرار بأن عدم التمسك بها كتابيا من تاريخ إبلاغه في اجل معين بالتتبعات يعتبر تمسكا ضمنيا بالحصانة.
الفقرة الثانية: الجريمة المتلبس بها
ينص الفصل 69 من الدستور" أما في حالة التلبس بالجريمة فإنه يمكن إيقافه، ويُعلَم رئيس المجلس حالا على أن ينتهي الإيقاف إذا طلب مكتب المجلس ذلك".
و قد نص الفصل 33 من م ا ج على " تكون الجناية أو الجنحة متلبسا بها:
أولا : إذا كانت مباشرة الفعل في الحال أو قريبة من الحال.
ثانيا : إذا طارد الجمهور ذا الشبهة صائحا وراءه أو وجد هذا الأخير حاملا لأمتعة أو وجدت به آثار أو علامات تدل على احتمال إدانته، بشرط وقوع ذلك في زمن قريب جدا من زمن وقوع الفعلة.
وتشبه الجناية أو الجنحة المتلبس بها كل جناية أو جنحة اقترفت بمحل سكنى استنجد صاحبه بأحد مأموري الضابطة العدلية لمعاينتها ولو لم يحصل ارتكابها في الظروف المبينة بالفقرة السابقة".
لقد ميز المشرع بين ثلاثة حالات للتلبس: التلبس الحقيقي و التلبس الاعتباري و الجريمة المشبهة بالمتلبس بها.
لقد عرف المشرع حالة التلبس في معناه الحقيقي أو المادي بالفقرة الأولى من الفصل 33 من مجلة الإجراءات الجزائية بالجناية أو الجنحة التي تمت معاينتها حال مباشرة الفعل أو في ظرف زمني قريب من الحال:
- أما في حالتها الأولى فهي تنطبق على صورة مباغتة ذي الشبهة بصدد ارتكاب الجريمة سواء من طرف المتضرر أو الشهود أو أعوان السلطة العمومية.
- أما في حالتها الثانية فهي تنطبق على صورة قيام فاصل زمني قصير بين ارتكاب الجريمة ومباغتة ذي الشبهة يكون معه إيقاعها قريبا من الحال، كأن يتم العثور على المظنون فيه بمسرح الجريمة بعيد حصولها أو يقع اكتشاف الجريمة بمجرد مغادرته للموطن بقطع النظر عن تجسم الشبهة القائمة ضده بآثار مادية تركها بمسرح الجريمة أو بشهادة شهود لا زالوا متواجدين بالمكان من عدمه.
ويكفي لقيام حالة التلبس أن تكون الفترة الزمنية الفاصلة بين إيقاع الجريمة واكتشافها قريبة.
و لقد عرف المشرع الجريمة المعتبر متلبس بها بالفقرة الثانية من الفصل 33 من م ا ج بالجناية أو الجنحة التي تبعتها مطاردة الجمهور لذي الشبهة صائحا وراءه أو إذا وجد هذا الأخير حاملا لأمتعة أو وجدت به آثار أو علامات تدل على احتمال إدانته، بشرط وقوع ذلك في زمن قريب جدا من زمن وقوع الفعلة، مميزا بالوجه المشار إليه بين حالتين اثنتين :
- أما الأولى فهي تنطبـق على حالة مطـاردة ذي الشبهة مــن طـرف الجمهور في شخص المتضرر أو غيره من أفراد الناس صائحا وراءه بنعته بما ارتكبه من أفعال.
اعتمد المشرع كلمة " جمهور " وهي كلمة عامة يمكن أن تشمل المجني عليه، الشهود الذين عاينوا الجريمة أو أي شخص آخر.
بيد أن مطاردة الجاني من قبل الجمهور لا تكتمل إلا بتوفر الصياح، ويقصد به الملاحقة الصوتية بشكل يوضح رغبتهم في القبض عليه، فصرخات العامة تصدر في مواجهة المتهم لإدانته بصفة صريحة ومباشرة.
- أما في حالتها الثانية فهي تنطبق على صورة العثور على ذي الشبهة حاملا لأمتعة من آلة جريمة أو وثائق أو مسروق أو لآثار مادية من جروح أو تلويث ثياب بالدماء وغيرها من الآثار التي توحي بمشاركته في ارتكاب الجريمة.
وهذه الصورة تستلزم مشاهدة الجاني بعد وقت قريب جدا من وقت وقوع الجريمة حاملا لأشياء أو به آثار أو علامات يستدل منها احتمال ارتكابه لجريمة.
ومن الملاحظ انه لم يقع تحديد المقصود ب" الأمتعة "، فالنص جاء عاما تاركا المجال لاجتهاد مأمور الضابطة العدلية.
ولقد توسع المشرع التونسي في صور التلبس بالجريمة حيث نص الفصل 33 من م.ا.ج على أنه "و تشبه الجنحة أو الجناية المتلبس بها كل جناية أو جنحة اقترفت بمحل سكنى استنجد صاحبه بأحد مأموري الضابطة العدلية لمعاينتها ولو لم يحصل ارتكابها في الظروف المبينة بالفقرة السابقة".
هذه الصورة لا تعتبر تلبسا بطبيعتها ولكنها مشابهة للتلبس، وتبعا لذلك يجول هذا الوضع لمأمور الضابطة العدلية اعتماد إجراءات التلبس حتى ولو لم تدخل هذه الصور تحت أي من الصور التقليدية للتلبس.
ويستوجب قيام هذه الصورة شرطين أساسيين: يتمثل الأول في ضرورة وقوع جريمة بمحل سكنى، والثاني في استنجاد صاحب المحل بمأمور الضابطة العدلية.
وفي حالة التلبس يمكن الاحتفاظ و اصدار بطاقة ايداع ضد نائب الشعب من طرف النيابة العمومية او ايقافه تحفظيا من طرف قاضي التحقيق او تنفيذ حكم بات او بالنفاذ العاجل او مضمون جبر بالسجن ضده. و يكون ذلك مشروطا باعلام رئيس المجلس في الحال.
و نلاحظ ان الفصل المذكور لم يحدد شكل الاعلام كتابي ام شفاهي. و من يتولى الاعلام الضابطة العدلية ام النيابة العمومية ام رئيس المجكمة ام وزير العدل؟
و قد نص الفصل 69 على أن ينتهي الإيقاف إذا طلب مكتب المجلس ذلك.
و نلاحظ ان عبارة الايقاف جاءت مطلقة لذا فهي تشمل الاحتفاظ بمراكز الامن و الايقاف التحفظي و بطاقات الايداع و المحكوم عليهم الذين هم بصدد تنفيذ حكم او جبر بالسجن.
و بقراءة لهذه الفقرة نلاحظ انه و لئن نص على ان اعلام رئيس المجلس يكون في الحال الى انه لم ينص على ان انتهاء الايقاف يكون في الحال.
كما لم يقع تحديد شكل الطلب كتابي ام شفاهي. و من هي الجهة التي يرفع لها الطلب؟
و بقراءة للفصل المذكور لا شئ يمنع من اعادة ايقاف النائب مجددا. و بالتالي ندخل في حلقة مفرغة ايقاف من القضاء سراح من مجلس نواب الشعب و هكذا دواليك.
و لكن بالرجوع الى أحكام الفصلين 31 و 32 من النظام الداخلي، نلاحظ انه نص وذلك في تعارض صريح مع الدستور، إلى إمكانية طلب إنهاء إيقاف عضو بإقتراح عضو أو أكثر و بقرار يتخذه المجلس على ضوء تقرير لجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين البرلمانية والقوانين الانتخابية الذي يتم تقديمه في أجل أقصاه 48 ساعة و بعد الإستماع إلى صاحب الإقتراح أو إلى أول من أمضى في تقديمه. وهو ما من شأنه أن يعقد إلى درجة كبيرة من إجراءات رفع الحصانة البرلمانية. فيكفي لنائب وحيد أن يطالب بإيقاف الإجراءات حتى وإن كانت الإدانة ثابتة في حين أن تقديم مقترح تعديل على نص مشروع قانون يتطلب خمسة نواب على الأقل وأن المبادرة بمقترح قانون تتطلب إمضاء عشرة نواب على الأقل.
و تتمثل إجراءات مطلب إنهاء الإيقاف حسب النظام الداخلي للمجلس في انه يتم توزيع تقرير اللجنة على كفة الأعضاء قبل الجلسة العامة.
ويتم بعد ذلك الإستماع إلى التقرير ثم إلى العضو المعني بالأمر إذا رغب في ذلك أو لمن ينوبه من زملاءه.
ويتخذ المجلس قراره في خصوص رفع الحصانة من عدمه أو قبول طلب إنهاء الإيقاف من عدمه بأغلبية الحاضرين من أعضاءه دون إبراز ما إذا كانت هذه الأغلبية لا يجب أن تقل عن الثلث أو لا مثلما هو الشأن للتصويت على مشاريع القوانين العادية أو صحة إنعقاد الجلسات العامة.
ان هذه الامكانية تشكل تدخل في سير القضاء المنصوص عليه بالفصل 106 من الدستور و مساس من مبدا الفصل بين السلط فكيف يقع ايقاف شخص من السلطة القضائية و يقع تسريحة من طرف السلطة التشريعية.
ختاما يمكن القول إن الحصانة البرلمانية ضرورية وهي تمنح للنائب حتى يتسنى له أداء مهامه النيابية على أحسن وجه وفي كنف الإستقلالية وإحترام مبدأ الفصل بين السلط ودولة القانون.
ولكن هذا لا يعني أن يصبح أعضاء البرلمان دون بقية الأفراد – فوق القانون لا حسيب ولا رقيب عليهم – فالحصانة في الحقيقة ليست طليقة من كل قيد أو حد ، بل هناك ضوابط وقيود عديدة تحد من نطاقها ، فإذا ما تجاوز عضو البرلمان الحدود المسموح بها أو المشروعة لها تعرض للمسؤولية الكاملة .
ان هذا الضمان القانوني الذي وضعه المشرع لحمايته من جور السلطة التنفيذية باعتباره رقيباً عليها وممثلاً للشعب في مواجهة تجاوزاتها، تحول امتيازاً يوظفه بعض النواب لتجاوز القانون والإفلات من المحاسبة و لارتكاب جرائم تصل الى المس من امن الدولة و تشكل افعالا ارهابية، ولعل أبرز مثال على ذلك، أحداث العنف التي جرت تحت قبة البرلمان و مطار تونس قرطاج و التسريبات...
و تجدر الإشارة هنا إلى أن السياق الجديد الذي يعيش الغرب ظرفيته المتميزة ، يدعو إلى اعتماد منظور جديد للحصانة البرلمانية يقوم على التمسك بالحصانة الموضوعية مقابل التقليص التدريجي من نطاق الحصانة الإجرائية ، وذلك مع مراعاة الدور الحاسم الذي يمكن للقضاء أن يقوم به في تفعيل مفهوم و مضمون الديمقراطية و بناء دولة الحق بضمان سيادة القانون و مساواة الجميع أمامه في جميع الظروف و الأحوال. وعندئذ ستصبح المحاكمة العادلة، الحصانة الحقيقية ليس فقط للمنتخبين، بل للناخبين أيضا، تكريسا لمبدأ المساواة بين الأفراد.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire